حولَ فَلْسَفَةِ الرَّبانيَّةِ
أو التَّصوفُ الذي ندعو النَّاسَ إليه
تبسيطٌ مجملٌ للنَّظريةِ المُحمَّديَّةِ التي نخدمُهَا
(لفضيلة الإمام الرائد سيدي محمد زكي إبراهيم)
الخلافةُ الإنسانيةُ:
وبعدُ، فإنَّ الله قد خصَّ الإنسانَ بشرفِ الخِلافة عنه تعالى في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: من الآية30]، وبذلك فضَّلَهُ اللهُ على ملائكته، وزاده تفضيلاً فأسجدهم له، وجعل له الأستاذية عليهم فعلَّمَهُ الأسماء كُلَّها وأمره فأنبأهم بها، ثم جعله أهلاً لحمل الأمانة، وأعطاهُ مفاتيحَ قُوى الكون واستغلال أسراره، وسخَّرَ له ما في السَّموات وما في الأرض جميعًا منه، وكان حسب الإنسان شرفاً أن أقام اللهُ نفسه محاميا عنه أمام ملائكته إذ {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية30].
ثُمَّ تفضَّل جلَّ ثناؤه، فمنح بني الإنسان شرفًا آخر، بأنِ اصطفى منهم خاصةً هم أنبياؤه، ثم اصطفى من الأنبياء خيرته من خلقه ومهبط سرِّهِ سيدنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – فرفع به رتبة الشَّرف الكُلِّيِّ لبنى الإنسان، وكانت خصوصية هذا الشرف العام، موجهة إلى المسلمين حتى كانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: من الآية 110]، وكان لهم شرفُ الشَّهادة على الأمم جميعًا.
وظيفة الإنسان:
فإذا تحققَ المسلمُ بهذا الأصل إجمالاً، سافر إلى باطنه، وأدرك سرَّ هويته، فعرف ماهية وظيفته فيما بينه وبين الناس، إيمانًا وعملاً، واستخلافًا في الأرض واستعمارًا فيها، وتسخيرًا للقُوى الكونيَّةِ المذللة، وتجديدًا وابتكارًا، ودرسًا وعلمًا، وأمرًا بمعروفٍ ونهيًا عن منكر، وإصلاحًا وتساميًّا.
وعرف بالأولى وظيفته فيما بينه وبين ربه، عبوديةً وإنابةً، وتطهُّرًا وتبتلاً، وتوددًا إلى العالم الأعلى، فهذه هي الوظيفةُ الأساسية له، وهي التي تنتجُ بطبعها آثارَ الإنسانية الكاملة فيما بين العبد والعبد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات: 56].
والعبادةُ شكرٌ طبيعيٌّ على فضل رتبة الخلافة الإلهية، وما يتعلق بها من نعم، وللخلافة اقتضاءٌ ذاتيٌّ من آثار القلوب والجوارح، أي من الأخلاق والأعمال بمقدار ما أصاب الخليفة من مدد الخلافة، فإذا ما تحقق بما يجوز له الاتصاف به، وبما رضي له مُخْلِفُهُ من صفاته التي جاءت في كتابه، كان ربانيًّا قد كرع من نبع قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: من الآية79]، وبالتالي صحَّتْ له وراثةُ المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، كما صحَّ عن عائشة (كان خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القرآن)، والقرآنُ كتابُ الرَّبانيَّةِ الأعظم، ومن هنا صحَّتْ لرسولِ الله بأخلاق القرآن الخلافةُ العُظمى اختصاصًا من دونِ البَشر.
الإنسانُ الرَّبانيُّ:
ومثلُ هذا الإنسان يتحرَّى بربانيته معاليَ الأُمور، ويعفُّ عن سفسافها، فلا يأوي إلى منقصة، ولا يقع على تافه، ولا يلتفت إلى صغيرة، ولا يتبرم بنازلة، ولا يتعلق بشبهة، ولا يقبل الدنية في دينه، ولا يقفُ في آخر الصَّفِّ من دنياه، ولا يقنع من المعالي بما أدرك، ولا يَتلَقَّط فُتاتَ موائد غيره من علمٍ أو فنٍّ أو تجديدٍ أو ابتكار، ولا يجزي حسنةً بسيئة، ولا يذهب بنفسه حتى يُكتبَ في الجبَّارين.
وهكذا يعودُ الرَّبانيُّ إمامًا بفطرته، يهيمنُ على قُوى الكَونِ فتنفعل له، فيستكْنِهُ غيوبها وأسرارها، ويطوِّعها لخير الإنسانية في مستواها الرفيع، إظهارًا لتجليات الأسرار في الأسماء والصِّفات.
فالرَّبانيُّ بقلبه وباطنه مع الله، مخبتٌ منيبٌ، وبظاهره في خدمة الحياة منتجٌ مجددٌ، إيجابيٌّ في حدود طاقته، وفي مدى وظيفته وحرفته، عقليةً أو عمليةً كانت، على خصوصها وعمومها، وعلى أوسع إطلاقاتها (والماصدق) فيها، يؤدي كُلَّ ذلك خدمةً للإنسانية في الظَّاهر، وقيامًا بحقِّ العبودية في الباطن، والتماسًا لنعمة التمتع بالزُّلفى إلى الله، والتودد إلى حضرته المقدسة؛ فتنقلب دنيوياته ألواناً من العبادات والرياضات الروحية العميقة، بما فلسفها به من المعاني الإلهية، وما لونها به من النوايا الربانية.
وناهيك بأمة يكون هذا شأن موظفها وعاملها، وتاجرها، وطبيبها ومهندسها، وقاضيها، وحاكمها ومحكومها، ونسائها ورجالها؟
ولك أنْ تُسمِّيَ هذا الإنسانَ بعد هذا إنسانًا ربانيًّا أو قرآنيًّا، أو مُحمَّديًّا، أو صوفيًّا، أو ما شئت، فذلك هو الإنسانُ الذي نؤمنُ به ونبحثُ عنه، ونحاولُ إيجاده، ولا يعنينا كثيرًا أن تسميه بما تشاء، فهذه قشور لا تغير الحقيقة.
بدايةُ العملِ:
ويتعين على سالك هذا السبيل أن يبدأ من الأساس، أي من وعاء الإيمان، ومشرق الإفاضة، ونبع الحقائق، أي من الباطن، من القلب، الذي إن صلح صلح الجسد كُلُّهُ، وإن فسد فسد الجسد كُلُّهُ، القلبُ الذي علَّقَ اللهُ تعالى على سلامته أمرَ الدنيا والآخرة.
فأمَّا في الآخرة، فقد قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، ومعنى هذا، أنَّ أي عملٍ صالحٍ مهما عظم، إذا لم تصاحبه سلامةُ القلب كان تالفًا مردودًا على صاحبه، وسلامةُ القلب هنا معنىً عامٌّ يبدأُ من التوبة وينتهي بالمعرفة، تدرجًا في مراتب التطهر والإنابة.
وأمَّا في الدُّنيا، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: من الآية11]، ومعنى هذا أنَّ ما يعانيه الأفرادُ والجماعاتُ والشُّعوبُ والحكوماتُ، إنما هو جزاؤها على مرض بواطنها من النفوس والقلوب، فيجب أن يبدأ منها العلاج، وإلا كانت محاولة غير ذلك عبثًا وضياعًا مؤكدًا.
ومِنْ هنا تعرف كيف تكون الرَّبانيةُ علاجًا للأفراد، كما تكون علاجًا للطَّوائف والأمم، علاجًا شاملاً لمظاهرها وحقائقها، حتى مشاكل أخلاقها وعُقَدِ نفسياتها، وأمراضها المختلفة، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: من الآية28]، وفوق أنها علاجٌ حيويٌّ عامٌّ، وعلاجٌ أخلاقيٌّ ونفسيٌّ خاصٌّ، فهي طريقُ الاستمداد والذوق والوَجْدِ والكشف، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: من الآية11]، وهى كذلك طريق التوفيق والتسديد، {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: من الآية9].
فليستِ الرَّبانيةُ فقط صومعةً ومسبحةً، ولكنَّهَا الحياةُ كُلُّهَا دينٌ ودنيا، يتلقى كُلُّ فرد منها ما يناسبه بحسبه، عبادةً وحكمًا، تشريعًا وطبًّا، علمًا وفنًّا، قولاً وفعلاً، تقدُّمًا ونهوضًا، وعزةً ومجدًا، فإنَّ من خرب باطنه كان حربًا على نفسه ودينه وأهله ووطنه في جهاده الأصغر والأكبر معًا.
العلاجُ بالعبادةِ:
فأمَّا ما يكونُ من الإلحاف على التعبد منَّا، فإنما هو للتزويد بالشحنة الإيمانية التي تُعَبِّدُ الإنسان لاستقبال حياته استقبالاً ربانيًّا جِديًّا، وهي تربية الله لأحبابه {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة} [الأعراف: من الآية142]، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يختلى متعبدًا في غار حراء بتوجيه من الله حتى إذا تمَّ استعداده لحمل الرسالة ألقاها إليه، وكان – صلى الله عليه وسلم – بعدها، يقوم بالليل متعبدًا حتى تتورم أقدامه، وكان يعتكف في المسجد الليالي المتعددة، حين كان يدبر شئون أمته ودولته في كل ما يتعلق بدنياها وأخراها، لم يشغله هذا عن هذا، فإنما هما متعانقان، فكان لزومه الغار – صلى الله عليه وسلم – للإعداد والتنقية، وكان تعبده بعده للتقوية والترقية، وهذا هو وضعنا في دعوتنا هذه، ولنا مَثلٌ في المريض الجسمانيِّ، فنحن نعزله ونداويه حتى لا يُعدي غيره، وكذلك مريض الخلق والنفس نعزله في خلوته ونداويه بدوائه من العبادات حتى يبرأ، حين أنَّ أمراض الأجسام، أخطرُ على المجتمع أبدًا من أمراض القلوب والنفوس.
وقد أمر اللهُ بالتزام الفضائل، وترك الرذائل، فهذه أدواء القُلوب وهذه أدويتها، ولها أهلها ورجالها، وإهمالها جريمةٌ لا يغفرها الله، ولا المجتمع، ولهذا أمر اللهُ أن تبحث عمَّنْ يَصِلُكَ به، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: من الآية59]، وأمر باختيار الجماعة التي تجاهد معها نفسك وغيرك؛ إذ لا تكفي أنْ تتقي وتعتزل، فقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: من الآية119]، وقد حفظ التاريخُ للرَّبانيين آثارَهُم الفاخرةَ من عهد النبوة إلى عصرنا الحديث، مما كان له أثرُهُ العميقُ في الحياة العامة، فلا يمحوه ماحٍ على الزمان.
فهلْ فهمتَ التَّصوفَ الذي ندعو إليه إذن؟
هو الإسلامُ الصَّحيحُ، هو الكتابُ والسُّنةُ، هو الحكمُ بما أنزل الله، هو العزةُ والمجدُ، هو النُّورُ والحقُّ، هو النهوضُ وقيادةُ الدنيا، وإنَّ لدعوتنا هذه يومًا لابدَّ آتٍ و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: من الآية124].
__________
(*) المسلم، كلمة الرائد، غرة ربيع الثاني (1371هـ) ـ يناير 1952م، العدد التاسع ـ السنة الأولى.
يسرنا تعليقك وتفاعلك مع الموضوع