{عدد المشاهدات: 1٬306 }

العلامة الدكتور أحمد طه ريان: رحيل عالم جمع بين العلم والخشية والولاية

رحيل عالم جمع بين العلم والخشية والولاية بقلم الأستاذ الدكتور جمال فاروق الدقاق عميد كلية الدعوة بجامعة الأزهر سابقا

رحيل عالم جمع بين العلم والخشية والولاية

 

بقلم الأستاذ الدكتور

جمال فاروق الدقاق

عميد كلية الدعوة بجامعة الأزهر سابقا

 

المسلم : رسالة الوعي الإسلامي

 

لقد رحل عن دنيانا في فجر الأربعاء الخامس من شهر رجب الحرام 1442 هــ الموافق للسابع عشر من شهر فبراير 2021م فضيلة العالم الجليل والمربي الكبير الشيخ أحمد علي طه ريان، وصُليت عليه صلاة الجِنازة في الجامع الأزهر المعمور حيث امتلأ  بآلاف المشيعيين لجنازته وحضرها صاحب الفضيلة وكيل الأزهر الشريف ومعالي الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة الأزهرية وبعض قيادات الأزهر وجمع كبير من علمائه وطلابه ومحبي الشيخ الراحل.

وشيخنا أحمد الريان -رحمه الله-  من أهل الخشية،  تحقق بمعنى الولاية فلم يكن من علماء الشهادات والمناصب، ولا من ذوي الأهواء والشهرة، إنما هو رجل تستطيع أن تصفه بأنه ولي العلماء وعالم الأولياء، رجل من الربانيين الصادقين كما قال تعالى: ﴿ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾، رجل جمع بين العلم والخشية كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ إذا رأيته ترى فيه علامات القبول وأمارات الصدق، تميل القلوب إليه وتستضيء الوجوه بالنظر إلى ما غمره الله به من الأنوار، إذا ما جالسته فكأنما تجالس رجلا من عصر السلف الأوائل الذين لم تفتنهم الدنيا ولم تستهوهم الشهرة،  الذين استقاموا على الجادة ولم ينحرفوا حسب الأهواء والمصالح.

كان -رحمه الله- شديد الورع والتقشف والبعد عن الشبهات، يأخذ نفسه بالأشد والأحوط في دين الله، ولم يكن متساهلا أو متهاونا أو مجاملا.

أسجل شهادتي في حقه بحسب الدلائل في علمي ﴿ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾ من غير جزم بعلم الله فيه، وهذا جار على السنة، فقد صح عنه ﷺ «إذا رأيتُم الرجل يعتاد المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان»، وصح عنه ﷺ «خَصْلتانِ لا تجتمعانِ في مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ وفِقهٌ في دِينٍ، وخَصْلَتَانِ لا يجتمعان في مؤمن: البخلُ وسوءُ الخُلُق» وكما قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق، وثناء الناس على أحد بما يرتضيه الحق سبحانه ثناء من الحق عليه بذلك،  وفي الحديث أيضا “إذا أحبَّ اللهُ عبدًا نادى جبريلَ إني قد أحببتُ فلانًا فأحبَّه – قال- فيُنادي في السماءِ ، ثمَّ تنزلُ له المحبةُ في أهلِ الأرضِ، فذلك قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.

ومن الأدلة أيضا قوله ﷺ: «مَن أَثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا وَجَبَتْ له الجَنَّةُ وَمَن أَثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا وَجَبَتْ له النَّارُ» ، وقوله تعالى ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ أي: جعلناكم شهودا عدولا لتشهدوا على غيركم.

فمن خلال ذلك أستطيع أن أسجل شهادتي في حق شيخنا الجليل أحمد علي طه ريان بكل فخر واعتزاز وصدق وأمانة فأقول:

إن شيخنا -رحمه الله- ليس ككثير من علماء عصره، الذين يهتمون بالجانب التخصصي الفقهي وتدريس علوم الشريعة وأحكامها، بل كان جامعاً بين الفقه والتصوف (بين العلم الظاهر والباطن، بين الشريعة والحقيقة).. وعبارة الإمام مالك كما نقلها الشيخ الإمام زروق الفاسي في قواعد التصوف: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق” هكذا كان الشيخ جامعا بين علم الظاهر والولاية، بينما كثير من فقهاء عصرنا لا يدركون التلازم بين الفقه والتصوف، وأن أحدهما لا يتم إلا بالآخر، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:

فَقيهاً وَصوفِياً فَكُن لَيسَ واحِدًا فَإِنّي وَحَـــقُ اللَهِ إيّــاكَ أَنصَـــــحُ
فَذَاكَ قاَسَ لَم يَذُق قَلـبُهُ تُقى وَهَذا جَهولٌ كَيفَ ذو الجَهلِ يُصلِحُ

وكان الفقه في زمن النبوة جامعاً لأنوار الدين وكمالاته، بل كان يشمل طريق علم الآخرة ومعرفة دقائق النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا واستيلاء الخشية على القلب.

لقد تميز الشيخ عن أقرانه بأن علمه مطابق لفعله، وأنه رُبِّيَ على أيدي المشايخ العارفين منذ صغره، قال بعض الأولياء: (والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح). 

كانت ملامح شخصيته تبدو لي هكذا:

أولا- اشتهر بالتواضع الشديد وعُرف بتحمل المكاره والصبر على الشدائد، كان مسلما أموره كلها لله فيرضى بقضاء الله ويحب الخير لعباده.

ثانيا- كان لا يخشى في الله لومة لائم، يجهر بما يراه حقا ويقول ما يعتقده صدقا مهما كان الأمر.

ثالثا- يبدو عليه الخشوع في هيئته وتسطع الأنوار من وجهه، رؤيته شفاء وكلامه دواء، إذا رأيته انجذبت نحوه وتعلق قلبك به، كان إذا زار وليا من أولياء الله تعالى فإنه يلوذ بالصمت وكثرة الفكر فكأنما بينهما محادثة باطنية، وكان شديد التعظيم لأولياء الله تعالى الصالحين يلوذ بمقاماتهم ويجلس في أعتابهم مستغرقا متفكرا صامتا تلوح عليه أنوار المكاشفة، وكان شديد التواضع للفقراء وفي الوقت ذاته لا يأبه بشأن الأغنياء ولا بكثرة ثرواتهم ، كان يكرم طالب العلم ويقف بجانبه ويدافع عن مصلحته ، تتجلى فيه أخلاق الرحمة والإيثار والمحبة ومساعدة المحتاجين.

رابعا- كان معظما ومعتزا وشديد التمسك بالمذهب المالكي ، مجلًّا لعالم  المدينة وإمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه-كان ملتزما في فقهه وإفتائه بمذهبه، وكان في الوقت ذاته محترما ومقدرا لآراء سائر الأئمة -رضي الله عنهم- ، وكان يحث الطلبة على الالتزام بالسلوك والآداب الحميدة، وكان كثيرا ما يقص على طلبة العلم سير وحكايات المتقدمين حتى يتأسوا بهم ويتخذوهم قدوة في حياتهم وسلوكهم.

خامسا- كان رحمه الله- عفَّ اللسان وكان منصفا ومقدرا لمن يختلف معهم فيما يراه من المسائل الفقهية والعلمية ، مرة دعوته إلى الكلام مباشرة مع عالم كبير، وهذا أثناء إقامتي في دولة الإمارات العربية المتحدة بدبي حيث دُعيَ هذا العالم الكبير إلى حضور مؤتمر في دبي، وكان الشيخ رحمه الله يختلف معه اختلافا شديدا في بعض ما ذهب إليه من الأحكام الفقهية، فلم ينطق بكلمة سوء في حقه بل عظمه وأجله وأكبره،  ولكنه اعتذر عن مناقشته وذلك لأنه لا يريد أن يدخل معه في جدال أو نقاش يؤدي إلى مزيد من الحدة والاختلاف حفاظا على صلته ومودته وقال لي: إنه رجل متمكن وأثني بما لا أستطيع مجاراته أو مقاومة حججه فآثر ألا يذهب إليه، ولكنه أنصفه واعترف بفضله وقال: إن له حقا علي لا أنساه له أبدا ، هكذا كان إنصافه رحمه الله لمن يختلف معه، وهو أدب العلماء الصادقين الذين ورثوا أخلاق النبوة.

وأخيرا أقول: إني عرفت الشيخ الجليل عن قرب ولزمت صحبته فترة إقامته في دبي وتتلمذت على يديه وقرأت عليه كتابا في الفقه المالكي، مع أني حنفي المذهب وذلك لشدة تعلقي به وحبي له، وتعلمت منه التواضع والزهد ، لقد زرته مرة في بيته في فترة عمله في كلية الإمام مالك بدبي فرأيته يخدم نفسه بنفسه ويقوم بإعداد الطعام وطهيه وحاولت مساعدته فأبى بشدة وأمرني بالجلوس.

ومرة أخرى كان ابنه يقيم معه في البيت فنسي شيئا يسخن على النار ثم كادت النار أن تشتعل في البيت لولا لطفه تعالى بالشيخ وهو في بلاد الغربة، فلما انبعث الدخان من البيت سرعان ما اتصل الجيران بالشيخ وكنت قد علمت بهذا الأمر فجئت مسرعا قبل وصول الشيخ من الكلية إلى البيت فظننت وقتها أن الشيخ سينفعل ويغضب على ابنه ولكنه دخل مستسلما راضيا لم يزد على قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله قدر الله وما شاء فعل،  ثم توجه إلى ابنه وقال له: هل أنت بخير يا بني؟

ومرة أخرى وهو في مصر فوجئت وأنا جالس في صحن الأزهر إذا به يجلس إلى جواري ويسألني عن بعض إجراءات السفر ويستفسر مني وأنا في حالة ذهول كيف بهذا الإمام العظيم يجلس متواضعا معي على الأرض دون أن يلقي السلام إلي قبل الجلوس حتى أنتبه واقفا مسلما عليه ومقبلا ليديه الكريمتين؟!.

وأخيرا أقول:

والله ما عرفت مثله في تواضعه وأدبه وعظيم بركته وخشيته وخوفه من الله، لقد كان يحرص على صلاة الجماعة في المسجد مهما كانت الظروف وكان -رحمه الله – يدرس العلم ابتغاء وجه الله تعالى.

ووالله لقد فقدنا بموته ركنا مهيبا من أركان الدعوة إلى الله تعالى والتعظيم لحرماته، ولقد وجدنا تغيرا في نفوسنا بفراقه ، وهذا يحدث عند فقد عالم شديد الخشية لله أو عند موت رجل صالح ترجى بركته ، وجدنا تغيرا عما ألفناه في صحبته من الصفاء والرِّقة والنورانية والتأدب بأخلاق أهل الله تعالى ، فإن معية أهل العلم وخاصة المرشدين العارفين بالله وصحبتهم تنفع السالكين والصادقين في سيرهم إلى مرضاة الله تعالى لأنهم هم الورثة لعلوم وأسرار المصطفى ﷺ

رحم الله شيخنا وجمعنا به مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.

تعليقات Facebook