ترجمة العارف بالله
سيدي الشيخ عبد القادر عوض الشاذلي
رحمه الله ورضي عنه
لفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ
نجاح عوض صيام الشاذلي
هو فضيلة مولانا العارف باللَّه، العالِم الرباني والقطب الغوث النوراني، بَرَكَة العصر، القدوة الزاهد، سيدي الشيخ عبد القادر عَلِيّ عوض الشاذلي .
وُلِد رضي الله عنه سنة 1923م بقرية أَوِيش الْحَجَر – التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية – مِنْ أبويْن كريميْن صالحيْن؛ فوالده فضيلة الشيخ سيدي عَلِيّ عَلِيّ عوض، كان حافظًا لِكتاب اللَّه تعالى تاليًا له، وكان معلِّمًا القرآنَ الكريمَ لأبناء القرية، حَسَنَ الصوت مؤذِّنًا بأحد مساجد القرية حسبةً لِلَّه تعالى، وكان سمحًا كريمًا آيةً في الجود والكرم؛ يجود بكلّ ما يملك على الفقراء والمحتاجين، حتى إنّ بعض أهله كانوا يلومونه رضي الله عنه على كثرة نفقاته فيقول: إنّ الكريم لا يضام .
وأمَّا والدته رحمها الله فكانت مِن الصالحات القانتات، حافظةً لِكتاب ربها أيضًا، دائمةً لِلتلاوة والذِّكْر؛ كانت تقضي يومَها في تلاوة القرآن والتسبيح والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي صلة الأرحام، يتبرك بها أهل البلدة ويلتمسون منها الدعاء، وكانت مِنْ أُسْرَة عريقة في التُّقَى والصلاح ..
وفي هذا البيت الصالح المبارك وُلِد المؤلف رحمه الله، وأسماه والدُه ” عَبْدَ القادر ” تيمنًا باسْم الإمام العارف الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني – قَدَّس اللَّه سِرَّه – إمام أهل السُّنَّة في عصره وأحد الأقطاب الأربعة المشهورين؛ فعادت عليه بَرَكَتُه وصار مِنْ أكابر العارفين وأولياء اللَّه الصالحين.
وتعاهده والده بالعناية والرعاية؛ فحفظ القرآنَ الكريمَ وأَتَمَّه في سِنّ مبكرة، وغرس فيه والدُه حُبَّ الصالحين عمومًا وحُبَّ أهل البيت خصوصًا .
وبَعْد أنْ أَتَمّ حِفْظَ القرآن وتجويدَه على يد فضيلة الشيخ عبد اللَّه البلتاجي، وتَعَلَّم مبادئَ اللغة العربية والخطّ والحساب التحق بمعهد الزقازيق الأزهري – حيث لم يَكُنْ بالمنصورة معهد حينئذ – وأخذ فيه العلمَ عن نخبة مِنْ كبار علماء العصر – والذي كان يَزخر بهم معهد الزقازيق آنذاك – ومنهم: العلاّمة الفقيه الأديب الشيخ محمود حسن ربيع المعروف بمؤلفاته وبحوثه القيمة، والعلاّمة الأديب البحّاثة الشيخ محمد عبد اللَّه دراز، والعلاّمة الشيخ سليمان نوّار .
وبَعْد أنْ أَكْمَل دراستَه بالمعهد الأزهري ووفاة والده رحمه الله التحق بالعمل في التدريس بالتعليم الْحُرّ، وهو ما يسمى الآن بـ” المدارس الخاصة ” التي تشرف عليها وزارة التربية والتعليم؛ حيث كان العائلَ الوحيدَ لأسرته، وظلّ مدرسًا بها لِعلوم اللغة العربية والدين، إلى أنْ تَمّ تعيينه بوزارة التربية والتعليم سنة 1952م، وظلّ يَعمل بها معلِّمًا إلى أنْ أُحِيلَ إلى سِنّ التقاعد القانونية، ولم يَقْبَل الترقية إلى وظيفة أخرى أعلى مِنْ وظيفة التدريس التي أَحَبَّهَا وأَخْلَصَ لها طيلةَ حياته المباركة، وكان رضي الله عنه يقول: إنّ التدريس وتعليم النشء اللغةَ العربيةَ والدينَ والأخلاقَ مِنْ أهمّ مقاصده؛ لأنّ النشء هو أساس المجتمع؛ إذَا صلح صلح المجتمع كله .
وفي سنة 1948م أراد اللَّه له السعادةَ – وإذَا أراد اللَّه بعبدٍ السعادةَ عَرَّفَه بالسعداء – فتَعَرَّف بشيخه العارف الكبير والقطب الغوث الشهير سيدي أحمد العيسوي – المتوفى سنة 1965م، والكائن ضريحه بمسجده المشهور بمدينة المنصورة – رضي اللَّه عنه وأرضاه -، فصحبه ولازمه وتأدَّب بآدابه، ونهل مِنْ علمه الشريف، وأفاض عليه الشيخُ مِنْ بَرَكَاتِه وأنوارِه ومنحه أسرارَه، وظَلّ ملازمًا له إلى أنْ ورث حالَه حتى صار آيةً مِنْ آيات اللَّه كشيخه في الحِلْم والكرم والصبر والتؤدة والزهد والورع والرضا والقناعة.
واستمر مِنْ بعد شيخه رضي الله عنه يدعو الْخَلْقَ إلى اللَّه، ويعلِّمهم التصوفَ الحقَّ، ويَحُثُّهم على ذِكْر اللَّه والحبّ والودّ والتآخي والتسامح والتخلق بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح رضي الله عنهم.
وصار بيته إلى الآن قِبْلَةً لِتعليم الدين الحنيف والسماحة ومكارم الأخلاق، ومقصدًا لِذوي الحاجات، ولم يُثْنِه السِّنّ المتقدمة عن السفر والترحال لِلدعوة إلى اللَّه تعالى على بصيرة مِنْ ربه، ونشر طريقته العلية المبنية على الكتاب والسُّنَّة ومجانَبة البدع، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، معلِّمًا الناسَ ما أمر اللَّه به وما نهى عنه، وما اشتمل عليه الدين مِنْ فقه وتوحيد وسلوك شريف.
وظَلّ رضي الله عنه مقيمًا ببلدته، يلتقي بمريديه وأحبابه بِمَنْزِلِه يوميًّا، وفي يوم الجمعة مِنْ كُلّ أسبوع بمسجده الذي أَسَّسَه باسْم ” مسجد الشاذلي ” حيث مجلسه العامر بالْعِلْم والذِّكْر وإطعام الطعام، ويَحضر مجلسه العلماء فضلاً عن طلاّب العلم ومَنْ دونهم مِنْ أهل البلدة والبلاد المجاورة، بل يأتيه الصادقون مِنْ طلاّب الحقيقة مِنْ مختلف أنحاء القطر المصري دون مبالغة؛ وذلك لِمَا حباه اللَّه تعالى مِنَ الحلم والعلم والجمع بين الشريعة والحقيقة، فَمَنْ حَسُنَتْ خصاله طاب وصاله .
وقد كَمَّلَه اللَّه تعالى وجَمَّلَه، فأفاض عليه مِنْ صفات الجلال والجمال، فما رآه أحد إلا أَحَبَّه وأَجَلَّه، وما رآه أحد إلا ذَكَر اللَّهَ تعالى، وهذه صفة مِنْ صفات أولياء اللَّه الصالحين كما جاء في الحديث الشريف عن سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: “الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّه”.
وهذه نبذة من أخلاقه وصفاته وفضائله كنت كتبتها من سنوات بعيدة لتستفاد :
* فمن فضائله رضي الله عنه: صبره واحتماله الشدائد، وأخذه بالعزائم دون الرخص، فهو رضي الله عنه وهو في هذه السن وهذه الأمراض يحرص على صلاة الجماعة في المسجد كما يحرص على الصلاة قائماً رغم معاناته الشديدة، كما يحرص أيضًا على أداء النوافل (نوافل الصلاة والصيام) والأوراد والأذكار في الليل والنهار، كما أنه يحرص على الآداب العامة والخاصة والمراقبة لله عز وجل، فأشهد بالله إني ما رأيته مادًّا رجله قط تجاه القبلة لا في المسجد ولا في غير المسجد، رغم شدة أمراضه خاصة ركبتيه، وكنت ألح عليه بأن يريح رجليه قليلاً فيأبى، وهذا من شدة حيائه رضي الله عنه، كما أني ما رأيته رافعًا صوته قط على جليسه أو على محدثه، ولا يمل من محدثه وإن أطال عليه، يكلم الأطفال ويمازحهم ويداعبهم .
* وأما إكرامه الضيف فحدث ولا حرج فهذا الأمر مشهور عنه جداً وقد ورثه عن والده الذي كان يضرب به المثل في الكرم والإيثار، فما زاره أحد في ليل أو نهار إلا بالغ في إكرامه، وسواء كان الزائر له رضي الله عنه أو لأحد من أولاده أو أحفاده .
* ومن فضائل شيخنا رضي الله عنه: أنه كان يذهب إلى السوق لشراء حاجات أهله من طعام وشراب وخلافه، وكان سمحًا في الشراء بشوشًا، وكان الباعة يستبشرون به ويريد كل منهم أن يشتري منه الشيخ، وكان يحمل حاجاته بنفسه ولا يجعل أحداً يحملها عنه ويبالغ في ذلك .
* ومن فضائله أيضاً رضي الله عنه صلته لرحمه وودهم وزيارتهم وصلة الفقراء والمساكين منهم بما يستطيع وما يملك، ويذهب إليهم بنفسه رغم وجود أكثرهم خارج بلدته مما يرهقه السفر كثيراً، خصوصاً في هذه السن المتقدمة، فما زال رضي الله عنه مواظبًا على ذلك منذ وعيت ذلك منه وأدركته وقد بلغت فوق الخمسين عاما وقد نشأت وتربيت في بيته بحكم قرابتي، وهذه شهادة أشهد الله والناس بها لعل يكون فيها النفع لي ولغيري وعلى الله قصد السبيل .
هذا ولم يكن الشيخ رضي الله عنه من الذين قصروا أنفسهم على العلم والعبادة وفقط ، بل اهتم بما يجري حوله من أحداث، فالصوفي الراشد المستنير ليس بمعزل عن المجتمع ـ كما يتهمه أعداء التصوف ـ بل يتفاعل مع المجتمع ويتأثر به ويؤثر فيه بما آتاه الله من فضله من العلم والحكمة …
وفي هذا الديوان المبارك ترى الشيخ ينظم الشعر في مختلف المناسبات السياسية والاجتماعية إلى جانب المناسبات الدينية التي تتضمن الحِكم والمواعظ والآداب التي تسمو بالروح وتحلِّق بها في سماء الحب والقرب من الله عزّ وجلّ ..
فتراه يُحيِّي ” حزب الوفد ” ورجاله ، وحزب ” مصر الفتاة ” لمناسبات جرت هنا أو هناك، ويثني على ثورة يوليو 1952م وقائدها المظفَّر، ويبكي على ضياع فلسطين ويحثُّ على نجدتها، ويشحذ الهمم للدفاع عنهاواسترداد المسجدالأقصى من الغاصبين… إلى غير ذلك من الأحداث ..
وأمّا عن الاحتفاء بالعلماء والأولياء وبيان فضلهم فحدِّث ولا حرج؛ فله القصائد العديدة في مدح الإمام المحدِّث الكبير الشيخ عبد الله بن الصديق الغُماري، محدِّث المغرب العربي بل والعالم الإسلامي في عصره، كما اشتمل الديوان على العديد والعديد من القصائد في شيخه الإمام العارف الكبير والولي الشهير سيدي أحمد العيسوي، الذي أحبه حبًّا جمًّا، وتأثر به أيما تأثير، بل فني في محبته وأحبه الشيخ، وصار خليفةً له من بعده .
ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
مَالِي وَمَدْحِكَ يَا أَبَا الْبَرَكَاتِ * يَا أَحْمَدَ الْغَدَوَاتِ وَالرَّوَحَاتِ
يَا سَيِّدًا أَعْلَى الإِلَهُ مَقَامَهُ * فِي هَذِه الدُّنْيَا وَفِي الْجَنَّاتِ
وقال في أول زيارة له لسيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
صَغَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْكَ حِينَ نِدَاكَا * وَأَتَتْ إِلَيْكَ مُطِيعَةً لِتَرَاكَا
لَمْ يُثْنِهَا عَنْ قَصْدِهَا وَمُرَادِهَا * بُعْدُ الدِّيَارِ فَشَمَّرَتْ لِلِقَاكَا
وَتَحَمَّلَتْ وَعْرَ الطَّرِيقِ وَقَيْظَهُ * مِنْ غَيْرِ مَا أَلَمٍ لِذَا أَوْ ذَاكَا
وَصَلَتْ إِلَى (عَيْذَابَ) وَهْيَ سَعِيدَةٌ * لَوْلاَكَ مَا جَاءَتْ لَهَا لَوْلاَكَا
يَا سَيِّدِي هَذِي الْحَقَائِقُ سُقْتُهَا * لَيْسَتْ لِمَنٍّ بَلْ لِنَيْلِ قِرَاكَا
إِنِّي فَقِيرٌ لِلْقِرَى مِنْ فَيْضِكُمْ * ظَمْآنُ لَيْسَ يُرَوِّنِي إِلاَّكَا
ولشيخنا علاقة خاصة بسيدي الإمام محمد زكي إبراهيم رضي الله عنه، يقول رحمه الله:
ومن نعم الله تعالى الجسام أنني تعرفت على الإمام الجليل، رائد العشيرة، وشيخ الطريقة المحمدية، السيد المبارك، سليل الأولياء، المجاهد في الله حتى أتاه اليقين السيد الشيخ محمد زكي إبراهيم في أخريات حياته، فاغترفت من معينه الصافي، وشربت من كأسه الوافي فجزاه الله خير ما جزى به شيخا عن محبيه .. ولما فارقنا ليلحق بجوار ربه الكريم مع آبائه الكرماء رثيته بهذه القصيدة:
غَشِىَ الْكِنَانَةَ أَعْظَمُ الْحَسَرَاتِ * وَأُصِبْتِ مِصْرُ بِأَفْدَحِ النَّكَبَاتِ
سَكَتَتْ طُيُورُكِ وَاخْتَفَتْْ أَلْحَانُهَا * وَاظْلَمَّ وَجْهُ الصُّبْحِ ذُو الْْبَسَمَاتِ
غَابَتْ نُجُومُكِ وَالسَّمَاءُ قَدِاكْتَسَتْ * بِمَلاَبِسِ الأَحْزَانِ وَالظُّلُمَاتِ
آهٍ عَلَيْكِ غَدَاةَ مَاتَ مُحَمَّدٌ * شَيْخُ الدُّعَاةِ الْحُرُّ ذُو الصَّولاَتِ
هَاتِ الرُّفَاةَ وَشَيِّدِي بَيْنَ السُّهَا * رَمْسَ الأَبِيِّ الْفَرْدِ ذِي الْحَسَنَاتِ
وَابْكِيهِ يَا مِصْرُ الْحَزِينَةُ دَائِمًا * قَدْرَ الَّذِي أَعْطَاكِ مِنْ نَفَحَاتِ
فَلَقَدْ رُزِئْتِ وَأَيُّ خَطْبٍ بَعْدَهُ * وَلَقَدْ دُهِيتِ بِأَرْوَعِ الدَّهَيَاتِ
رُوحِي فِدَاكَ إِمَامَنَا وَمَلاَذَنَا * مِنْ كُلِّ مَا لاَقَيْتَ مِنْ كُرُبَاتِ
فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ يَا شَيْخَ التُّقَى * دَارٌ لَكُمْ مَلأَى مِنَ الْخَيْرَاتِ
فَجَزَاءُ مَنْ عَاشَ الْحَيَاةَ مُجَاهِدًا * دَارُ النَّعِيمِ وَأَكْبَرُ الدَّرَجَاتِ
رَضِيَ الْمُهَيْمِنُ عَنْكُمُو يَا سَيِّدِي * وَعَلَيْكَ أَنْزَلَ سَابِغَ الرَّحَمَاتِ
هذا .. وقد أسعده اللَّه بالانتقال إلى جواره ليلةَ الأحد الموافق الثالث والعشرين مِن المحرَّم سنة 1436 هـ الموافق السادس عشر مِنْ نوفمبر سنة 2014م .. رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنه وأرضاه ونفعنا به وبعلومه وأعاد علينا من بركاته في الدنيا والآخرة .. آمين .
وبَعْـد .. فهذا غيض مِنْ فيض، وقطرة مِنْ بحره الْخِضَم الذي لا تُعَكِّرُه الدِّلاَء، دون مبالغة أو إطراء؛ فالكتابة عن أهل اللَّه تعالى صعبة المنال، يقف عندها الإنسان عاجزًا، فلِلَّه رجال لا يَعرفهم إلا الخاصة، ولِلَّه رجال لا يَعرفهم سواه، وما يدرك حقيقتَهم إلا رَبّ العزة عز وجل، وما قصدنا إلا تقريب الصورة لِلقارئ الكريم .
جزاه اللَّه عَنَّا خيرًا، ورضي عنه وأرضاه، ونفعنا به وبعلومه في الدارين .. آمين .
يسرنا تعليقك وتفاعلك مع الموضوع